السفلة، استناداً إلى دعاويهم الطائلة، وأفكارهم الخاوية، لم أكن مخطئاً.
أما انحلال عقيدة إيمانهم، فلأن عقائده الحقة إنما بنيت عندهم على هاوية التقليد، فلما هبت عليها أعاصير الشبه، نسفتها من صدورهم نسفاً، فغادرتها قاعاً صفصفاً، فأصبحوا وهو في ريبهم يترددون.
وتلك آيات الكتاب الحكيم التي لم تترك للأدب وجهاً جميلاً إلا كشفت لثامه، ولا شرعة لأعلاء النفوس الطاهرة إلا فتحت أبوابها، وقومت ما نشز من كعوبها، تحثنا على سلوك هذه الجادة حثاً أكيداً، وتنبئنا بغياتها التي هي: الآداب الروحية، والمعارف التي تكمل بها السعأدة في الدنيا، ويتوسل بها إلى السعادة في الآخرة. قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: ١٢٢} الآية. والتفقه في الدين كما يصدق على الأحكام التي تتلقى بطريق السمع، يندرج فيه التنبه لفهم الدقائق والأسرار التي تؤخذ من الأمور الحاضرة بواسطة المشاهدة، ولقد كان لعلمائنا العناية الكبرى، والعزيمة الماضية في النهوض للرحلة، والتجلد على اقتحام ما كان فيها من المشاق.
كان السفر قطعة من العذاب، بل العذاب كله، فمن اتخذ سبيله في البحر سرباً، لا يزال ينظر إلى أمواجه نظر المغشي عليه من الموت، كأنما ينفتح له ما بين كل موجتين قبر، وعواصف الرياح تقلبه ذات اليمين وذات الشمال، فيقضي شهوراً، أو ما قدر له، وهو على أعواد مشرف على الهلاك، لا يمسكه عن الوقوع في مهواته إلا خيط أجله، وإن كان السفر براً، فلا تسل عما يحيق بأهله عندما يحمى بهم وطيس الظهيرة، أو يجمد عليهم زمهرير الغدو والآصال، والمخاوف تنسل عليهم من كل فج عميق.