موقعها، فيأخذ أحد قرنائه في العمل على شاكلتها، فتصاعر له الخدود، وتقطب له الوجوه، كأنما جاء شيئاً فرياً.
النكتة في هذا المثال: اغترار هذا القرين بأن تلك الكلمة إنما أودعت في القوم نشوة بانسجام لفظها، أو إصابة معناها، لا لأنها وردت عليهم مخضبة بصبغة الانتساب إلى مصدر خاص، والمطلع على ما لبني جلدته من المذاهب المتنوعة، والشؤون المتخالفة، المتصرف فيها تصرفاً واسعاً، لا يلدغ من مثل هذا الأغوار الضيقة.
وكأني بمن يترصد مواضع النقد في الكلام، يوحي إلينا: أن من أبناء السبيل من لم يزدهم الاغتراب إلا خوراً في طباعهم، وانحلالاً في عقدة إيمانهم، وتشدقاً في الأقوال مع عجز في الأعمال، غمسوا وجوههم في الخبائث حتى نضب منها ماء الحياة، وانسدل عليها من السماجة والقحة قناع كثيف، ثم تمادوا يبنون معتقداتهم على ما يسمى عندهم: بحرية الفكر، حتى تلفقت لهم ديانة لا شرقية ولا غربية، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة: ٣٠]. ولو انزوت هذه الفئة في حنايا بيوتهم، لكان خيراً لهم، وأخف فتنة على السماعين لهم.
فنقول: هذا لا ينصدع به الجدار الذي كنا بصدد إقامته؛ إذ لم نقل: إن السفر النافع هو مبارحة الأوطان كيفما اتفق، والجولان بالمدن والقرى كيفما كان الحال.
السفر لا يربي لصاحبه ملكة بالأدب إلا إذا قارنته فطنة مستيقظة تبحث عن أسرار الاجتماع، وتدقق النظر في تمييز الحسن من المعيب، لو قلت: إن هذه الشرذمة لم تهتد إلى غير المنازل التي تأوي إليها الأراذل، وتسكن إليها