العالم الفاضل الشيخ بوقندورة المفتي الحنفي جالساً في زاوية منه، وحوله جماعة من الطلبة على شكل دائرة يتناوبون سرد "صحيح الإمام البخاري" واحداً بعد واحد، والشيخ مصغ إليهم، فإذا ناب أحدهم خطأ، استرده إلى ما هو الصواب، وهذه عادتهم في سائر أيام رمضان.
وبعد صلاة الظهر تنقلنا إلى الجامع الكبير، فالتقينا بالشيخ عبد الحليم ابن سماية، فغمرنا بنفحات خلقه الناضر، واختلب ألبابنا بفصاحة لسانه الساحر، ولم نلبث معه عند هذه الملاقاة إلا مدة قصيرة لأمر عارض حال بيننا وبين استطالة الجلسة.
وفي ذلك اليوم دعانا السيد علي بن الحداد لزيارة وقت الغروب، وبعد أن تناولنا معه الفطور، توجهنا إلى ضريح الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي، بقصد الحضور بدرس الشيخ علي ابن الحاج موسى، فمكثنا غير بعيد حتى دخل الشيخ وهو محفوف بسكينة ووقار، وجلس بالمحراب، ثم رفع يديه بقراءة الفاتحة قبل افتتاح الدرس، وبعد ذلك أخذ في تقرير مبحث: صفة الكلام من كتاب "الصغرى" للشيخ السنوسي بصوت جهور، فوضّح معناها، ثم أقام عليها الدليل ثانياً، وتعرض في أثناء ذلك إلى جلب مسائل لها تتعلق بالمبحث؛ كتنبيه على أن الحدوث الذي وصف به القرآن في بعض الآيات؛ كقوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}[الأنبياء: ٢] هو عائد إلى الألفاظ التي نتلوها، لا إلى المعنى الذي هو قائم بالذات العلية.
ومما يدل على صلاح حال هذا الرجل، وصفاء سريرته: أنه ما جرى ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على لسانه إلا ارتعد صوته، وفاضت دموعه، ثم أقيمت صلاة العشاء، فتقدم ذلك الشيخ وصلى بالجماعة إماماً، وقرأ في الركعة الأولى