الرتبتين، أو عاقته دون الترقي لما بعدها عوائق، فقد نول ما فيه كفاية من غير أن يخفق مدة من حياته فيما لا فائدة فيه لمثله.
أما الرتبة العليا التي لا يقصدها إلا من طمحت همته إلى أن يكون عالماً معلّماً، فلابد فيها من تتبع عروق المسائل، واستقصاء آثارها، وحث مطية الفكر في أنجادها وأغوارها، على شريطة أن لا يلتفت المعلم إلى المباحث المتعلقة بعبارات المصنفين؛ فإنها داعية إلى خلط الفنون بعضها ببعض من غير كبير فائدة، والاشتغال بتحرير أصل من أصول العلم وصناعتها أفيد للطالب وأجدى، ويستغنى في تقوية الملكة وتشحيذ الذهن بالمباحث المتعلقة بنفس المسائل.
ودعانا السيد مصطفى بن الأكحل إلى منزله، وهو من أفاضل القوم، لا يحل بالبلد غريب، ولاسيما إن كان من أهل العلم، إلا وأكرم مثواه، وأحسن ضيافته، وحضر تلك المأدبة جماعة من أعيان العلماء؛ مثل: العالم الفاضل الشيخ بوقندورة، والشيخ عبد الحليم، والشيخ محمد بن مصطفى خوجة، فنضحوا بماء لطافتهم عن صدورنا وحشة الاغتراب، وتساقط من بين مذكراتهم العلمية ما تلذه عيون الألباب.
وجرت بمناسبة قول بعض الجماعة: أنا لا آكل لحماً، وقد آكل حوتاً، مسألة: من حلف أن لا يأكل لحماً هل يحنث بأكل الحوت أم لا؟ فقال أولئك السادة: لا يحنث؛ رعاية للعرف بمقتضى المذهب المتمسكين به مذهب أبي حنيفة، فسقنا نحن ما نقله ابن كمال باشا في "تفسيره" من أن سفيان الثوري أنكر ذلك على أبي حنيفة محتجاً بآية: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}[فاطر: ١٢].