الصلة الدينية، فيغادر العالم مسقط رأسه، وهو على ثقة بأنه إنما ينزل بقوم يماثلهم في مزاجهم الروحي، ويشاركهم في إحساسهم السياسي والأدبي، فلا يلبث أن يدخل في قبيلهم، ويعدّ عضواً في مجتمعهم.
أخذت السياسة التونسية تنظر إلى الفيلسوف ابن خلدون بعين جافية، فرمى بنفسه في أحضان مصر، ولقي فيها حفاوة ارتفع بها إلى مستوى العظماء من رجالها النابتين في معاهدها العلمية، وخشي أبو المكارم هبة الله بن الحسين المصري أن تمسه السلطة المصرية بأذى، فتخلص منها إلى البلاد المغربية، وكان من عاقبة أمره أن تقلد القضاء بمدينة تونس، إلى أن توفي بها سنة ٥٨٦ هـ، ولم يطمئن المقام بالقاضي عبد الوهاب بن نصر في بغداد، فقدم إلى الديار المصرية، وأدرك فيها من الحظوة ما يستحقه الذي يقول فيه المعرّي:
والمالكيّ ابن نصر زار في سفرٍ ... بلادنَا فحمدْنا النأيَ والسَّفَرا
إذا تفقّه أحيا مالكاً جَدَلاً ... وينثر الملِكَ الضِّلِّيلَ إن شعرا
ودخل أبو عبد الله المقري المغربي دمشق الشام، فأقبل عليه أهلها باحتفاء، ومنحوه رقة وأنساً، حتى أنشد مشيراً إلى انقسام فؤاده بين دمشق ووطنه:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيانِ؟
تشهد هذه القصص التي ملئت صحف التاريخ بأمثالها: أن العلماء ما كانوا ليستصعبوا فراق أوطانهم، حتى تقعد بهم شدة إلفها عن الرحيل إلى حيث تكون سوق المعارف قائمة، وبضاعة الأدب نافقة، أو تشد وثاقهم ليقيموا على هون وغضاضة؛ لأن هممهم إنما كانت تتجه إلى الحياة الاجتماعية