الخلفاء قبله عن عبرة، فعرف أن لا غنى للدولة عن رجال يجمعون إلى العلم شجاعة، وإلى الشجاعة حكمة؛ حتى يمتطوا منصسب الدعوة إلى الإصلاح بحق، ويكونوا الصلة التي يظهر بها أولو الأمر وبقية الشعب في مظهر أمة تولي وجهها شطر غاية واحدة، ثم لا يغيب عن مئل ذلك الخليفة العادل: أن الدولة لا تحرز مجداً خالداً، وسمعة فاخرة، إلا أن يعيش في ظلالها أقوام حرة، وفي مقدمتهم علماء يجدون المجال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسيحاً.
يصفون بعض الأمم بمحررة الشعوب، ويلقبون عاصمة بلادهم بمطلع الحرية، إلا أن ناشر لواء الحرية بحق، ومعلمَ البشر كيف يتمتعون بالحقوق على سواء: من وضع لطاعة الأمراء حداً فاصلاً، فقال:"إنما الطاعة في المعروف"، وجعل الناس في موقف القضاء أكفاء، فقال - صلوات الله عليه -: "أيها الناس! إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها".
كم ظهر في بلاد العرب من سيد بلغ في الرئاسة أن أحرز لقب ملك؛ كآل جفنة، وغسان، وربما وجد من بينهم من لا يقل في قوته النفسية الفطرية عن الفاروق - رضي الله عنه -، فما بالهم لم يأخذوا في السياسة بنزعته، ويرموا إلى أغراضها عن قوس حكمته؟!.
لا عجب أن يمتطي ابن الخطاب تلك السياسة الفائقة، ويجول بها بين الأمم جولته التي رفعت الستار عن أبصارهم، حتى شهدوا الفرق بين سيطرة الدول المستبدة، وسيرة الخليفة الذي ينام في زاوية من المسجد