إن هو إلا الإسلام أقام له أساسها، وأنار سراجها، فبنى أعماله على أساس راسخ، واستمد آراءه من سراج باهر، فكانت صحف آثاره أبدعَ -عند عشاق السياسة القيمة- من مناظر الروضة الغناء.
تدرب الخلفاء العادلون على مذاهب السياسة وفنون الحرب بما كانوا يتلقونه من حضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الحكم السامية؛ كحديث:"الحرب خدعة"، أو ما يشهدونه من التدابير المحكمة؛ كوسيلة التكتم في الأمر الجاريةِ عند الدول لهذا العهد، وهي أن يبعث الرئيس الأعلى إلى الرئيس الأدنى، أو يناوله رسالة مختومة، ويأمره أن لا يفك ختامها إلا في محل أو وقت يسميه له، وقد جاء في "صحيح البخاري"، وغيره: أن حضرة صاحب الرسالة - عليه الصلاة والسلام - ناول عبدَ الله بن جحش -وهو أمير نجد- كتاباً، وقال له:"لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا"، فلما بلغ عبد الله ذلك المكان، قرأ الكتاب، وأخبر الجند بما في ضمنه من الأمر.
إن اختلاف الأمم في عاداتها وحاجاتها، يستدعي أن تكون سياستها ونظاماتها مختلفة، كما يقتضي أن يكون المدبرون لأحكام الأمة وتراتيبها المدنية ممن وقفوا على روحها، وأحاطوا خبرة بمزاجها؛ حتى لا يضعوا عليها من الأوامر والنواهي ما يجعل سيرها بطيئاً، أو يردها على عقبها خاسرة. وكذلك الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات، وشير بها على ما يطابق المصالح، ولهذا فصل بعض أحكام لا يختلف أمرها باختلاف المواطن؛ كآية:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة: ١٧٩]، وحديث:"البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"، ووكل البقية إلى أنظار الراسخ في العلم بمقاصد