الشريعة، البصير بما يترتب على الوقائع من آثار المفاسد والمصالح.
وإن تعجب، فعجب لبعض من لا يدري أن الإسلام نور إذا نفذ في قلب، لا ينطفئ منه، حتى يكون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحداً، فكتب في إحدى المجلات مقالة عقد فيها موازنة بين الإسلام والدين الذي يعتنقه، إلى أن قال:"قد يقول البعض: إن الإِسلام تطور عما كان عليه، وقطع إلى الإمام شوطاً بعيداً؛ لأن الأتراك قد أعلنوا الدستور، ولأن الفرس أدخلوا الإصلاحات البرلمانية، ولأن معاهد العلم والجامعات منتشرة في كل نواحي العالم الإسلامي، ولكنا نحيل القارئ الكريم إلى ما جاء في تقرير المذابح الأرمنية، والفظائع الوحشية التي أتاها الأتراك أنفسهم".
وليس في وسع هذا المقام ولا من غرضه التعرضُ للروايات المصنفة في حوادث الأرمن، كما أنني لن أنبش مقابر التاريخ الأندلسي، أو ألفت نظر ذلك الكاتب لفتة حقيقية إلى ما تقاسيه بعض الشعوب الإِسلامية اليوم من أهل دين يقدسه ويتقلد عقائده، ولكني أذكره بأن الطرق المنطقية لا تبيح له الاحتجاج على عدم مطابقة التعاليم الإِسلامية للإصلاحات المدنية بمذابح الأرمن، ولو انعقد الإجماع على صحة رواياتها، وإنما يرجع في الترجيح بين الأديان -إن شاء- إلى شرائعها، ونصوص الذين أوتوا العلم من أئمتها، وإن شريعة تقوم على قواعد:"الضرر يزال. المشقة تجلب التيسير. العادة محكمة"، ويقول أحد العظماء من فقهائها:"تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من المعاملات والسياسيات"، لا يحق لأحد أن يرميها بمجافاة الإصلاح، والبعد عما تقتضيه طبائع العمران، إلا أن يفوته العلم بحقائقها، أو يحمله التعصب الجامد على جحودها.