في العلم منهما، ثم لا يحيدون عن القسطاس المستقيم، وهو سيرة السلف من الصحابة والتابعين، فإذا لم ينقل عن جماعة من السلف -مثلاً- أنهم احتفلوا في المساجد بالنفخ في المزامير، أو ساروا في الشوارع يحملون الرايات لغير جهاد، أو تحدثوا عن حضرة الخالق بالعبارات الموضوعة لعشق الحسان ومعاقرة الخمور، علمنا أن هذا الصنيع من اللهو الباطل الذي يلفت وجه صاحبه عن سبل الله. وإذا لم يرد في حق أحد من الصحابة أو التابعين أنه كان يسمي نفسه أو يسميه غيره باسم يدل على تصرفه في الكون تصرفًا غيبياً، كان الأحرى بالرئيس في الطريق أن لا يصف نفسه، ولا يفسح المجال لبعض مريديه حتى يصفوه بما لم يوصف به صحابي قضى حياته في عبادة خالصة، وسياسة عادلة في سبيل الله.
وأما احتفاظهم على ما رزقوا من الكلمة النافذة، وتصميمهم على أن لا يبذلوها حيث يأمرهم ذو سلطة باغية، فمهما يربطه على قلوبهم، ويجعله كالخلق الراسخ في نفوسهم أن يتفقهوا في قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)} [آل عمران: ١٧٥]، ثم يصرفوا قلوبهم عن المنافع التي يمكن لصاحب تلك السلطة أن يحول بينهم وبينها، ويدوسوها بتعاليمهم، ويضربوا بها وراء ظهورهم، وعلى فرض أن يتجاوز المستبد في حكومته إلى أن يسوم القابض يده عن العبث بالحق سوء العذاب، فيخلق بمن وقف موقف الزعامة والإرشاد، أن يكون مثال أكمل المزايا، وهي احتمال الأذى، وتجرع غصص البلاء المر في سبيلي العفاف والمروءة، تلك الخصلة التي يقوم عليها التصوف الحر، وبها يعلم الله الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين.