ولما استولى العدو على غرناطة، خيّر المسلمين بالأندلس بين الدخول في النصرانية، أو الخروج من أرض الأندلس، أو القتل، فمنهم من غلب عليه حب ممتلكاته من المزارع والمباني، فاختار الإقامة، ومنهم من عز عليه دينهُ، فهاجر إلى إفريقية؛ كفاس، وتلمسان، وتونس.
وقد أخرجت الأندلس علماء أجلّة في الشريعة؛ كابن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، ومنذر بن سعيد، وأبي بكر بن العربي، والفقيه ابن رشد، وحفيده القاضي الفيلسوف صاحب "بداية المجتهد"، وكأبي محمد بن حزم، وأبي إسحق الشاطبي، ونحاة متضلعين؛ كابن عصفور، والشلوبين، وابن خروف، وابن مالك، وأبي حيَّان، ولغويين مبرزين؛ كابن سيده، صاحب "المحكم"، و"المخصص"، وأدباء بارعين؛ كابن هانئ، وابن خفاجة.
وقد ألف ابن حزم رسالة عما ألفه علماء الأندلس من الكتب، وما تمتاز به من إحاطة وتحقيق، وذيل ابن سعيد رسالةَ ابن حزم برسالة أورد فيها ما فاته، أو أُلِّف بعده.
وهذا المصير المحزن الذي صارت إليه الأندلس، قد حذرنا منه الكتاب الكريم في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}[الأنفال: ٢٥]، والرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيح: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنهلك وفينا صالحون؟ قال:"نعم، إذا كثر الخبث".
وبيان ذلك: أن الصالحين في الأمة إذا سكتوا على المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولا نهوا عن المنكر، كانوا هم أنفسهم ظالمين، فاستحقوا أن تصيبهم الفتنة عقوبةً لهم، وإن امتثلوا ما أمر الله به، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، تصبهم الفتنة عقويةً لهم على بقائهم مع الظالمين، وقعودِهم