والحق أن الشعر: ما يقصد به حمل النفوس على فعل الشيء أو اعتقاده، أو صرفها عن فعله أو عن اعتقاده، من جهة ما يشتمل عليه من حسن التخييل، أو براعة البيان، ومن هنا دخل في الفنون الجميلة، ولا جمال في المنظوم إلا أن يكون في معناه غرابة، أو في تركيب ألفاظه براعة.
فالكلام الموزون المقفى إنما يكون حفياً باسم الشعر متى بدأ فيه وجه من حسن الصنعة؛ بحيث يكون هذا الحسن زائداً على أصل المعنى الذي يقصد بالإِفادة أولاً، ولا فرق بين أن يكون أثر البراعة في التخييل، أو أثر البراعة في ترتيب المعاني، وإيرادها في ألفاظ مؤتلفة سنيّة.
ولا ننسى أن للنفس عند سماع الكلام الموزون حالاً من الارتياح غير حالها عند سماعه منثوراً، يدل لهذا الجملُ البليغة المرسلة إذا تُصرف فيها بنحو التقديم والتأخير حتى وافقت وزناً من الأوزان المألوفة، فإن ارتياح النفس لها بعد هذا التصرف يكون أوفر.
ومن أمثله ما جرى فيه التخييل البارع: قول أبي زيد عبد الرحمن الفنداقي الأندلسي من قصيدة ألقاها بين يدي إدريس بن يحيى أحدِ أمراء الأندلس:
ومصابيحُ الدجى قد طفئت ... في بقايا من سواد الليل جونْ
وكأن الظلَّ مسك في الثرى ... وكأن الطل درٌّ في الغصونْ
والندى يقطر من نرجسه ... كدموع أسكبتهنَّ الجفونْ
والثريا قد هوت من أفقِها ... كقضيبٍ زاهرٍ من ياسَمينْ
وانبرى جنحُ الدجى عن صبحه ... كغراب طار عن بيضٍ كَنينْ