للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصاحته، فيخرج الشعر وفي ألفاظه، أو في نسج جمله ما يتجافى عنه الذوق، فلا تتلقى تلك الصور بالارتياح، وان كانت في نفسها غريبة.

فالتوغل في العلوم يضايق ملَكة الشعر، وأشدُّ ما يضايقها العلومُ النظرية؛ كالمنطق، والكلام، والفلسفة، والفقه، ولاسيما ما يُعنى صاحبه بالبحث في طرق الاستنباط، ويتعلم كيف يطبق الأصول على الوقائع الخارجية.

وعلوم النحو والصرف والبيان معدودة في وسائل إحكام صنعة الشعر، ومتى درست على طريقة التوسع في مسائل الخلاف، ومناقشة الآراء والأدلة والعبارات، أصبحت في خدش ملكة الشعر كالمباحث الفلسفية أو الفقهية.

وقد يكون في الرجل قوة الشاعرية، فيهجرها، فتضعف حتى لا تواتيه عندما يهم باستدرارها.

قال أبو القاسم الأندلسي: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر، فقال: إني أغبطكم على قول الشعرة فإن خاطري لا يوافقني على قوله، على تحقيقي في العلوم التي هي موادّه، فقال له رجل: فما قلتَ قطُّ شيئاً منه؟

قال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي:

خضبت الشيبَ لما كان عيباً ... وخضبُ الشيب أولى أن يُعابا

ولم أخضِب مخافةَ هجرِ خلٍّ ... ولا عيباً خشيتُ ولا عتابا

ولكن المشيبَ بدا ذميماً ... فصيرت الخضابَ له عِقابا

فهذه الأبيات تدل على أن في أبي علي الفارسي مبدأ نظم الشعر، وعدمُ مواتاة الشعر له عندما يهم بنظمه ناشئ من عدم إقباله على هذه القوة بالتربية والتهذيب.