أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمُهْ
ومثل هذا لا يسمى شعراً، ولا يسمى كاتبه شاعراً؛ لأنه مرتبط بقول قبله ليس بشعر، فإن الضمائر في قوله:"عقب"، وقوله:"عزائمه" إنما تعود على أمير المؤمنين الواقع في نثر قبله. ثم إن كلمة "أناة" مرتبطة بذلك النثر من جهة الإِعراب، إذ هي منصوبة على أنها اسم لحرف التوكيد في قوله:"فإن لأمير المؤمنين".
والشعر كسائر الكلام من مرسل وسجع، تتفاوت درجاته في فنون البيان، ويرتقي في سماء البراعة إلى أن يأخذ بالألباب، ويوجهها إلى أهداف كانت غافلة، أو صارفةَ النظر عنها. وإنما تظهر براعة الشعر في ناحيتين: ناحية نظم الألفاظ، وناحية تصوير المعاني.
ومن الشعر ما تكون براعته في نظم ألفاظه دون تصوير معانيه. ومن هنا ترى نقاد الشعر قد يقولون لك: جودة هذا الشعر في فصاحة ألفاظه دون ما يُصوره من المعاني، كما قال ابن الأثير في "المثل السائر" بعد أن ساق أبياتاً وصف فيها أبو نواس الخمر: "وجودة هذا الشعر في فصاحة ألفاظه، وأما معناه، فليس فيه كبير فائدة".
ويدخل في هذا القبيل أشعار محكمة النظم، ولكن صُور معانيها مشوهة؛ لاختلال في التخيل، أو سخافة في الرأي، أو خطأ في علم، أو استخفاف بدين حق، أو خرق لسياج أدب كريم.
ومن الشعر ما تكون براعته في تصوير المعاني دون صياغة الألفاظ؛ كالأبيات التي يقصد قائلها إلى معان جيدة، ويرد بعض ألفاظها في نظم غير محكم، أو على وجه لا تسيغه قوانين العربية الفصحى.