الأندلسي الإشبيلي، ولد ليلة يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وما بلغ ست عشرة إلا وقد قرأ من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه، وتمرَّن في الغريب والشعر واللغة، ثم رحل إلى المشرق مع أبيه يوم الأحد مستهل شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فدخل الشام والعراق وبغداد وسمع بها من كبار العلماء، "كأبي بكر بن الوليد الطرطوشي"، و"أبي بكر الشاشي"، ثم حجَّ في سنة تسع وثمانين، وعاد إلى بغداد ولقي "أبا حامد الطوسي الغزالي".
قال في "قانون التأويل": "ورد علينا ذا نشمند "يعني الغزالي" فنزل برباط أبي سعد لإزاء المدرسة النظامية معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الله تعالى، فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنّا ننشد وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم، ولو رآه "علي بن العباس" لما قال:
إذا ما مدحت امرءاً غائباً ... فلا تغلُ في مدحه واقصدِ
فإنَّك إن تغلُ تغل الظّنو ... نُ فيه إلى الأمدِ الأبعد
فيصغر من حيث عظَّمته ... لفضلِ المغيبِ على المشهد
= الذي ندب إليه الشارع بقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: ٥] وسبق إلى استحساننا التصدي للتعريف ببعض العلماء الأعلام، الذين اعتنت الجهابذة بنقل أنبائهم العظيمة وتخليد آثارهم الفخيمة، ونذكرها بعون الله على حسب ما تسمح به الفرص، من غير نظر إلى ترتيبهم في الزمان ورفعة المكان.