وذكر في العواصم أنه لقيه بمدينة "السلام" سنة تسعين وأربعمائة، ثم صدر القاضي أبو بكر عن بغداد، ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدّثين، فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ومات أبوه -رحمه الله- "بالإسكندرية" أوّل سنة ثلاث وتسعين، فانصرف حينئذ إلى "إشبيلية" بعلم كثير لم يدخل أحد قبله بمثله ممّن كانت له رحلة إلى المشرق، ولذا نقل عنه أنه قال:"كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به أنا و"القاضي أبو الوليد الباجي"، أو ما هذا معناه، واستقضي بها فنفع الله تعالى به أهلها لصرامته وشدَّته على الظالمين والرفق والرأفة بالمعتدلين، شأن العالم الذي لا تدور أعماله إلا على محور الشريعة، والتزم هذا القاضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله، فقابل ذلك كله بالصبر الجميل، وكان كثير التحمل ثابت الفؤاد.
قال في "العواصم": "ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يكن في الأرض منكر، واشتدَّ الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبَّوا وثاروا إلى فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي أن لا يدفعوا عن دْاري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا علي وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار".
ومما وقع في زمن ولايته أن احتاج سور "إشبيلية" إلى بنيان جهة منه، ولم يكن بها مال متوفر، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى فأحضروها وهم كرهون، ثم صُرِف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثِّه.