ولقد ابتهج التونسيون ابتهاجاً عظيماً حين أعلن عن مسامرة بلديِّنا العلامة الشيخ الأخضر ابن الحسين، وكان ابتهاجي أنا على الأخص عظيماً حيث لم أتمتع لا برؤية الشيخ، ولا بالتلذذ بمجالسه العِذاب وأدبه، واطّلاعه الباهر الجميل، وسهراته الظراف، ومحاضراته الطراف، وبالأمس على الساعة التاسعة استمعنا مسامرة الشيخ عن الأدب التونسي في القرن الخامس.
ألقى الشيخ مسامرته الطريفة بصوت فخم ضخم، حلو النبرات، جميل، وبلغة بديعة التعابير، فصيحة التراكيب، هي -وربَّك- البيان الكريم. وتكلم عن مهيئات تلك النهضة، وأنها بطبيعة الحال يجب أن تجاري النهضات الزاهرة في العراق، وبلاد الشرق، ولقد وجدت في القرن الخامس نهضة لم تأت بها الأيام، نهضة راقية ساحرة، بلغت من السمو والكمال والحظوة الكبرى والصيت الذائع البعيد، ثم تكلم الشيخ، فاستعرض كثيراً من شعراء ذلك العهد المزدهر السعيد؛ كابن شرف، وابن رشيق، والحصري صاحب "زهر الآداب"، وألقى نتفاً من شعرهم البديع، ومقاطيعهم التي هي كسجع الحمائم في الأسحار، وعبث الكواعب بالأوتار. وجعل الشيخ من أعظم العوامل المقوية لروح تلك النهضة: ملك القيروان إذ ذاك (المعزّ بن باديس)؛ فقد كان هذا الملك كَلِفاً بالأدب، عطوفاً على أهله، يصلهم بالصلات الحسنة، والعطايا الكبرى، فكان يجتمع في مجلسه نحو من مئة شاعر، ويقولون الشعر، فينبعث المعزّ- وهو مَنْ هو ضلاعة واطّلاعاً على الأدب - ناقداً، كاشفاً للغطاء عن الغلطات والعثرات التي عثروا فيها في ميدان القول الرحيب الفسيح.
ثم تحدّث عن قيمة ابن شرف القيرواني النقدية، ومؤلَّفه في ذلك، وبيّن قيمة ابن شرف في النقد، وأنه من الذين كانوا ينقدون الشعر النقد العميق