لنشريات الدعوة وكتبِها من ذوي المشاركة الثقافية المنزلين دون منازل العلماء، في حال أن العلماء وأصحابَ الأقلام كادت أن تتقسمهم الفتنة بين موقفي الإفراط في مناصرة الدعوة، والتفريط فيها.
فكانت هذه الحالة من الاضطراب والحيرة مقتضية ظهورَ شهاب ثاقب من شهب العلم والأدب يهدي الحائرين، ويؤمن المضطرين، إذ يتناول قضية الإصلاح، فيعرضها على معيار البحث العلمي الرصين، والنقد المنطقي النزيه، اللذين يسموان بها عن معركة المتبارزين من المفرّطين والمفرطين.
فكان ذلك الشهاب الثاقب الذي متَّن أركان النهضة الإصلاحية هو رجل الهداية، وصاحب السعادة، الشيخ الخضر حسين؛ الذي لو كان للنهضة العلمية والأدبية بتونس في القرن الرابع عشر أن تتمثل إنساناً ناطقاً، لما كانت إلا إيّاه، وهو الذي طافت في شخصه أرجاء البلاد الشرقية، حتى احتلت في عِطْفيه أسمى مقام علمي في الشرق الإسلامي، وهو مقام شيخ الأزهر الشريف.
وردَ الشيخ الخضر على العاصمة التونسية من بلاد الجريد، لا يحدو به وبأبيه وبأسرته كافةً إلا تعلقُ الفكر بجامع الزيتونة الأعظم، وهوى الفوز بما تزخر به العاصمة التونسية من أمجاد العلم، ومباهج الأدب.
فدخل مدينة تونس ١٣٠٤ هـ وهو يافع ابن اثني عشر عاماً، وانقطع إلى طلب العلم بجامع الزيتونة؛ فانغمس في غمار الحياة الفكرية والأدبية، لا يشعر بذاته، ولا يأنس بحياته، إلا في ذلك الأُفُق المشرق المنعش.
وظهرت قيمته الفكرية، وبرزت موهبته الأدبية، فأصبح مشاراً إليه بالامتياز بين أقرانه، وزاده خلقُه الزكي جلالاً، وطبعُه الهادئ حباً واعتباراً،