وأراد الله أن يقع الاحتلال الفرنسي، فعدت أنا إلى مصر على الإبل بزي أعرابي، وبقي الشيخ في دمشق على أمل أن يعود إلى تونس فيكمل حياته فيها، ولكن الله أراد له اللحاقَ بنا إلى مصر في العام التالي (١٣٣٩ هـ). وله في ذلك موشحة لطيفة في "الديوان"(ص ٢٤٥). وقال عند سفره من دمشق "الديوان"(ص ١٦٠):
كَأَنِّيَ دينارٌ وجِلَّقُ راحَةٌ ... تُنافِسُ في الإنفاقِ راحَةَ حاتمِ
فكَمْ سَمَحَتْ لي بالرحيلِ، وليتني ... ضربتُ بها الأوتادَ ضربةَ لازمِ
وفي مصر أخذ يشتغل بالكتابة والتحرير والدرس. وفي سنة ١٣٤٠ هـ ألف رسالته "الخيال في الشعر العربي". وبعدئذ كسبته دار الكتب المصرية، فالتحق بقسمها الأدبي عدة سنين، ثم تجنس بالجنسية المصرية، وتقدم للامتحان في الأزهر، فقام على امتحانه لجنة برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، وكانت اللجنة كلما اكتشفت آفاق علمه، زادت في التعمق بمناقشته، واستخراج كنوز فضله، وأصبح بعدئذٍ من أكمل أساتذة هذا الصرح العلمي العظيم في عصور الإِسلام الطويلة، وإن تلاميذ الشيخ صاروا فحول العلماء، وأطواد التحقيق في الشريعة وعلوم العربية. وإن كثيرين منهم كانوا يرغبون في القيام بواجب الكتابة عن فضله وأياديه الكريمة في التحقيق وتخريج الرجال، فلما علموا أني ساكتب عنه، تخلوا لي -حفظهم الله- عن هذه المهمة؛ لما يعلمونه من طول خلطتي به، وقديم صداقتنا التي أعتز بها، وطالما أفدت منها.
وفي سنة ١٣٤٢ هـ أسس (جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية)، وسَنَّ لها قانوناً قمت أنا بطبعه.