ثم أنتقل إلى ما رواه الثعالبي من شعره، فأجد المطرب المرقص مما يملك الوجدان، دقةَ إحساس، ولطافة منزع! والرجل بعدُ قاض فقيه يؤلف في الفقه والتشريع، ويحذق أساليب الاستنباط والقياس وقواعد الأصول ذات المنحى العويص!! وتفوقه في الناحيتين المختلفتين دليل ملموس على أن العلم لا يمنع الأدب؛ فقد يوجد في ذوي المواهب من يطير بجناحين متعادلين، فيحرز قصب السبق في مضماري العلم والأدب دون نزاع، ولقد كان السيد محمد الخضر حسين أحد هؤلاء دون جدال!! فالرجل قاض فقيه يكتب في الأصول والتشريع والتاريخ كتابة المتعمق الدقيق، وقد كان يدرّس لطلاب كلية أصول الدين أبواباً من السياسة الشرعية، ويغوص فيها مغاص الأصولي الجدلي المتكلم النظار، ثم هو صاحب رسائل أدبية، ومقالات تحليلية، وديوان شعري يجعله في طليعة أرباب الفن الرفيع، ولا ندري كيف تأتى له ذلك، ومنشؤه التعليمي بجامع الزيتونة في تونس إن استطاع أن يلهمه بصر العالم، فلن يستطيع أن يورثه ذوق الأديب دون جهد جهيد!
ولد الأستاذ بقرية من قرى الجزائر على حدود القطر التونسي، في أسرة تعتز بعراقة النسب، وتفخر بمن أنجبت من العلماء والأدباء، وحين بلغ الثانية عشرة من عمره التحق بجامع الزيتونة طالباً. وأكب على التحصيل والتلقي حتى نال الشهادة العالمية عن جدارة، وتهيأ للإفادة العلمية كاتباً ومدرساً وقاضياً.
وتسألني عن طريقة التدريس بجامع الزيتونة إذ ذاك، فلا أجد أحسن مما قاله الأستاذ أحمد أمين، في كتابه "زعماء الإصلاح"(ص ١٤٨):
"وعلى رأس هذه الكتاتيب: جامع الزيتونة، وهو صورة مصغرة من