على هذه المواطن كلها العلمَ والمعرفة، والصدق والكفاح؛ من أجل تحرر هذه الشعوب من رِبْقَة الاستعمار، فقد حُكم عليه بالإعدام، وسجن، ولكنه لم تلن له قناة، ولم يسترح له بال إلى أن أصبح شيخاً لأكبر جامعة إسلامية تاريخية في أرض الكنانة مصر.
وفي هذه المواقف السياسية كلها -بما فيها هذا المنصب- الذي لم يكن ليرغب فيه، ولم يكن يطمح إليه، بل جاءت السلطة الثورية في مصر، ورغبت منه أن يتولى هذا المنصب؛ لما يعرفون عنه من صدق وإخلاص، وثبات وجهاد، ولكنه -أيضاً- لم يرض عن هذا المنصب، واستقال منه؛ لأنه لم يرض عن أشياء كان يرجو أن لا تكون كذلك.
كما أنه تولى القضاء في "بنزرت" سنة وأربعة أشهر، ولكنه -أيضاً- رأى أن هذا المنصب لا يليق به، فاستقال منه، وحنَّ إلى موطنه الأصلي العلمي، وهو الزيتونة، التي أخذ يدرِّس بها. وأخذ يقوم بحركته الإصلاحية السياسية في البلاد التونسية؛ بإلقاء محاضرات، وإنشاء صحافة ومجلات، وكان يشارك في هذا النشاط الحي القوي في البلاد التونسية التي سبقت البلاد الأخرى في هذا الميدان، ونحن في الجزائر كنا نطبع الكتب في تونس، وأغلب المؤلفين في الجزائر يذهبون إلى تونس لطبع مؤلفاتهم، فكانت تونس، وكان جامع الزيتونة موئلاً للدارسين والباحثين، والطلبة الذين يهبون أنفسهم للدرس، لا من أجل تولي منصب؛ لأنهم إذا رجعوا للجزائر، فلا منصب لهم، ولا حظ لهم، وإنما يكافحون من أجل العربية، ومن أجل الإسلام؛ ليحافظوا على هذا التراث الذي أخذت السلطة الفرنسية -في ذلك الوقت- تطمس معالم هذا الدين، ومعالم هذه الثقافة، وأخذت العربية تندرس في هذه البلاد،