ارتكاب أخف الضررين، فإنها مأخوذة من مثل قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}[الكهف: ٧٩]، فعيب السفينة بالخرق أخفّ ضرراً على أصحابها من انتزاعها كلّها من أيديهم على وجه الغصب.
ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - حين قام الصحابة ليمنعوا العربي الذي يبول في المسجد:"دَعُوه لا تُزْرِمُوه"، أي: لا تقطعوا عليه ما هو فيه، فيحدث له ضرر. إن لبول الأعرابي في المسجد ضرراً خفيفاً يمكن إزالته بالماء، وفي حمله على قطع البول ضرر كبير؛ لما قد يصيبه من مرض، فاحتمل أخف الضررين.
ومن ذلك احتمال كيد المنافقين وأذاهم في عهد النبوة، ففيه ضرر بالمسلمين، ولكنه أخف من الضرر الناشئ عن قتلهم، وهو ما أشار إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة عبد الله بن أبيّ حين قال ما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}[المنافقون: ٨]، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعه؛ لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"، فقالة السوء هذه أكبر ضرراً من كيدهم.
ومن القواعد قولهم: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذه قاعدة أخذها الفقهاء من سيرة الشريعة المطهرة، فكانت تقدم إزالة المفاسد على جلب المصالح، وأسوق مثلًا لهذا: الربا، والقمار، والخمر، فقد يكون فيها منفعة، ولكن المفاسد التي تنشأ عنها أعظم، فحرمت لإزالة مفاسدها تحريماً مغلظاً، وألغيت المنفعة التي تحصل منها.
ويتصل بهذه القاعدة (١) ترجمة القرآن الكريم، ففيها، مفاسد كثيرة،