الفصاحة، وقد أطلع الله الرسول الأكمل على لهجات العرب، فكانت موضوعة أمامه يتناول منها ما يشاء، ومن الوارد في كتب الحديث والسيرة بروايات ثابتة متعددة: أنه كان يخاطب الوفود، ويراسل القبائل بلهجاتهم، حتى كان بعض الصحابة يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله (١). وقد جمع الرواة من هذا الباب شواهد كثيرة.
ومن ينظر فيما روي عنه من الخطب والرسائل والمحاورات والفتاوى، وما يلقيه في أثنائها من الحكم، وما يورده فيها من الأمثال والاستعارات، يرى في ذلك من وجوه البلاغة وحسن البيان ما لم يره، ولن يرأه قد تأتى لأحد البلغاء من غيره.
ووصف الجاحظ فصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلاغته في فصل ممتع، ثم قال:"ولعل بعض من يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أنا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلا، والذي حرم التزيد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء! لا يظن هذا إلا من ضل سعيه، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم".
والحق أن فصاحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروعة بيانه لا يدركها إلا من تردد بنظره على الحديث الشريف، ودخل في كل باب من أبوابه؛ إذ يرى الكلام الذي يصدر عفوًا دون أن يكون للتصنع فيه أثر، ويمر فيما يقرأ على جمل تهتز لروعتها القلوب، ومن لم يسعده الحال أن يطالع كتب الحديث، فلينظر في كتب غريب الحديث، فإنه يطلع في أقرب وقت على جانب عظيم من