وأذكر أني كنت في الآستانة سنة ١٢٣١ نازلاً بدار المرحوم خالي الشيخ محمد المكي بن عزوز أستاذ علم الحديث بدار الفنون، فعاد من الدرس يوماً، وأخبرني أنه كان مع طائفة من المدرسين في غرفة ناظر المدرسة، فجرى ذكر هذه الآية الكريمة، فنسب بعض الحاضرين إلى سليمان - عليه السلام - العلم بفن الطيران، فقال له الناظر - وكان من الأتراك المؤمنين المستنيرين بهدى الله -: "تلك معجزة".
أما الذين أنكروا أن يكون للنبي- صلى الله عليه وسلم - معجزة غير القرآن، فشبهتهم قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}[الإسراء: ٥٩]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: ٥٠ - ٥١].
وليس في هاتين الآيتين ما يثير إشكالاً؛ فإن كفار قريش كانوا يقترحون على النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات يصفونها، وإنما يقترحونها على وجه التعنت؛ مثل: الآيات التي حكاها الله عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: ٩٠ - ٩٣].
وذكر تعالى في جوابهم: أنه لا يرسل هذه الآيات التي اقترحوها تعنتاً؛ حيث علم أنهم سيلاقونها بالتكذيب، ودل على هذا: بأن قوماً يماثلونهم في طبائعهم النفسية قد أرسلت لهم آيات من جنس الآيات التي يقترحها