وإذا كان العلماء قد فرقوا بين ما يفعله على أنه شرع، وما يفعله على أنه جبلَّة وعادة، فإن التفرقة في أقواله بين ما يصدر على أنه عادة، وما يصدر على أنه شرع، أيسر وأقرب إلى الفهم، والاشتباه فيها أقل من الاشتباه في الأفعال؛ فإن في الأقوال التصريح بحرمة الشيء أو الإذن فيه، وفيها صيغتا الأمر والنهي، وفيها مدح الأفعال أو ذمها، وفيها الوعد بالثواب على الفعل، والوعيد بالعقاب على الترك، وقد يجيء القول في صيغة الخبر، وهو مقترن بلفظ أو حال يصرفه إلى الطلب أو النهي، وهذه طرق معروفة في التشريع، وإنما يجري الخلاف في وجه الطلب: هل هو الإيجاب، أو الندب؟ أو في وجه النهي: هل هو الحرمة، أو الكراهة؟
فإن قال الكاتب: أنكر على هذه الطائفة أن تعمد إلى الأقوال التي تحتمل أن تكون عن اجتهاد، فيجعلوها كلها من قبيل الوحي، قلنا له: المعروف في كتب الأصول: أن طائفة ينكرون أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - متعبداً بالاجتهاد، ويذهبون إلى أنه لا يقول إلا عن وحي، ويستدلون لهذا المذهب بآية:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم: ٤]، وإيراد الأصوليين كلمة التعبد في طرح المسألة، ظاهر في أن موضع الخلاف هو الاختلاف العائد إلى الأحكام الشرعية دون الأمور الدنيوية، وقد صرح بذلك الإمام الغزالي في كتاب "المستصفى" عند ذى الخلاف في اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - وسوقه لأدلة القائلين باجتهاده التي من جملتها: واقعة نزوله دون المياه في غزوة بدر، فقال:"أما المنزل، فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا، وذلك جائز بلا خلاف، إنما الخلاف في أمور الدين".
وتحدث كاتب المقال عن هذه الطائفة التي تقول: إن كل أفعاله وأقواله