ومن أهل العلم من يقدّم القاعدة والقياس الذي تكون مقدماته قاطعة على خبر الواحد، وقد تردد أصحاب الإمام مالك في مذهبه: فروى عنه أصحابه العراقيون تقديم القياس على الخبر، وروى عنه المدنيون والمغارية تقديم الخبر على القياس، والتحقيق: أن للإمام في كل حديث يتعارض مع القياس نظراً خاصًا، فيقدم - مثلاً - الحديث الذي تعضده قاعدة أخرى؛ كحديث العرايا: عارضته قاعدة الربا، وعضدته قاعدة المعروف.
فقد أريناك أيها القارئ النبيه كيف كان علماء الإِسلام يرعون عند التفقه في الكتاب والسنّة قاعدة: حفظ المصالح ودرء المفاسد، وأن ما جاء به القرآن والسنة من الأحكام المفصلة كفيل بحفظ مصالح الوقائع، أو درء مفاسدها، وفي استطاعة الراسخين في العلم أن يبينوا ما حفظته من المصالح، أو درأته من المفاسد بياناً كافياً.
وإذا كان من لازم الأحكام العادلة حفظ المصالح أو درء المفاسد، فليس من شرط كل حكم أن يتغير باختلاف العصور أو المواطن؛ فإن الواقعة قد تشتمل بطبيعتها على مصلحة، أوعلى مفسدة لا يختلف حالها باختلاف العصور والمواطن، فيكون لها حكم واحد لا يتغير إلا أن يتغير حال الواقعة نفسها. ومن الذي يعقل أن يكون القصاص - مثلاً - زاجراً عن القتل، مقللاً لوقائعه في عصر أو موطن دون آخر؟
والحقيقة أن حكم الواقعة إنما يتجدد عندما تتغير طبيعة الواقعة، وأن الحكم المشروع للواقعة بحق قد يبقى حكمها العادل، ولو مضت عليه أحقاب، حتى يعرض لها من الأحوال ما يستدعي تفصيل حكم غير ما شرع لها أولا؛