يفعل ذلك قط، ولا ترك مالك حديثاً لأجل مخالفة أهل المدينة له بعملهم وفتواهم.
والتحقيق: أن مالكاً إنما يحتج بإجماع أهل المدينة فيما طريقه النقل المستفيض؛ مما تقتضي العادة أنه لو يغيّر عما كان عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لعُلِم؛ كالأذان والإقامة، فإن العهد بذلك الزمن ليس ببعيد عن عصر مالك، والفقهاء والمحدّثون بها متوافرون، مع ما عرف من تنافسهم وإقدامهم في الأمر بالمعروف، وأما ما يجمعون عليه من الأحكام المأخوذة بصناعة الاجتهاد، فلا يسعه تقليدهم، بل هم وغيرهم في نظره سواء.
ويستثنى من تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - نوعان هما غير داخلين فيما يطلب فيه الاقتداء والتأسي:
أحدهما: ما سار فيه على مقتضى العادة أو الجبلّة؛ كما ترك أكل لحم الضب، وقال:"لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه".
ثانيهما: ما قام الدليل على اختصاصه به؛ كحرمة أكل ذي الرائحة الكريهة، وطلاق من تكره صحبته.
وقد أفرز بعض العلماء أحاديث الأحكام على جانب، وألّفها مستقلة، ومن مؤلفاتها الجامعة كتاب "منتقى الأخبار" للحافظ مجد الدين المعروف بابن تيمية.
والإجماع: اتفاق كلمة المجتهدين على حكم شرعي، فإذا انعقد في عصر، لم يسغ لمجتهد حدث خرق سياجه بالخلاف، ومن افتكر في حقيقة المجتهد، وعرف أنه المحيط بمدارك الشريعة، مع وصف العدالة، ثم أخذ من استقراء سيرة المجتهدين أنهم كانوا يترفعون عن المتابعة، ويتحفظون