انتشرت هذه المذاهب في الأقطار الإِسلامية، وتوزع الناس أتباعها، وكانت كل طائفة -مع اعتقاد أن مذهبها أرجح وزنًا- تنظر إلى مذهب غيرها باحترام، ومما يشهد لهذا: أن أبا جعفر المنصور لما حج دعا الإمام مالكاً، ثم قال له: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها، يعني:"الموطأ"، فننسخ نسخًا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها, لا يتعدوها إلى غيرها، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملو ابه، ودانوا به، وإن ردّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل بلد لأنفسهم.
والسبب في اختصاص كل قطر بمذهب، أو غلبته فيه، يرجع لأمرين: أحدهما: تمسك الدولة به في سياستها؛ فإن الناس مولعة بمحاكاة رجال دولتها، ويزاد على هذا: أن غالب الوظائف والمناصب إنما ينالها من ينتحل المذهب الذي تتصرف به الدولة.
ثانيهما: ما يتفق في القطر من كثرة علماء ذلك المذهب وقلتهم؛ كالمذهب المالكي؛ فإنه أخذ به أهل الأندلس والمغرب؛ لأن علماءهم كانوا يرحلون إلى الحجاز، وإمامه يومئذ مالك بن أنس، فيأخذون عنه، ثم يعودون وقد امتلأت حقائبهم من مذهبه، ثم تعلق به أمراء المغرب في سياستهم، فكان ذلك من أسباب استمرارهم على تقليده، مثلما انتشر مذهب الحنفية في بعض الممالك بكثرة ما انحاز إليها من فقهائه، واستدام فيها حيث ربطت به الدولة سياستها.