والعاميّ يتمسك بالمذهب؛ لأنه وجد آباءه أو أهل بلدته يتبعونه، حتى إذا فارق الرجل مذهب عشيرته إلى مذهب آخر، كان مسؤولاً عن وجه هذا التبديل، قال بعضهم لأبي ذر أحمد الهروي: من أين تمذهبت بمذهب مالك، مع أنك هروي؟ فقال: قدمت بغداد، وصحبت القاضي أبا بكر الباقلاني، فتمذهبت بمذهبه.
لم تكن العامة في الصدر الأول تلتزم اتباع المجتهد في سائر مذهبه، بل كان الواحد منهم يستفتي العالم في نازلة، فإذا عرضت له مسألة ثانية، ولقي عالماً آخر، عرضها عليه، واتبعه فيها كما اتبع العالم قبله في فتواه الأولى، ولكن القضية التي يأخذ فيها يقول إمام لا يتحول فيها إلى قول إمام آخر بغير وجه يرجحه؛ فإن انسلاله عن الفتوى الأولى، بعد أن اتثق بها شريعة، ورجوعه إلى غيرها بدون أن يترجح عنده دليله، أو تدعوه إليه ضرورة، هو في معنى الاسترسال مع الهوى، والعمل بما يلائم استحسان الطبيعة.
ولم يجوزوا للمقلد أن يتخير من كل مذهب ما هو الأهون عليه، والأوفق برغبته؛ لأنه من قبيل التلاعب واتباع الهوى، وربما اتخذه أصحاب النوايا السيئة وسيلة إلى الخروج عن عهدة التكليف، حكى البيهقي عن إسماعيل القاضي، قال: دخلت على المعتضد، فرفع إليّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنفُ هذا زنديق؛ فإن من أباح النبيذ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلّا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ به، ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.