ثم قال لخازن كتبه: هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر لنا في نسخة منه، وقال للشيخ: انشر علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له.
وكان للشيخ أبي الوليد الباجي علقة بالسلطان، فلامه بعض الفقهاء على هذه المداخلة، فقال لهم: لولا السلطان، لنقلني الذر (١) من الظل إلى الشمس.
تشعر الأمم الراقية بقيم العقول الكبيرة، فإذا تفرست في بعض الناشئين قرائح جيدة، وأنظارًا ترمي إلى غرض بعيد، ربتهم في مهد عنايتها، وساعدتهم بكل ما يقطع المعذرة في متاركة مداركهم، وإيقافها عند نهاية، وقد تضافرت صحف التاريخ على أن صاحب العقل الراجح لا يملأ يده مما يؤمل، أو يشرب من صفو حياته بكأس راوية، إلا بين رجال استقامت موازينهم، وخلصت هممهم، فبقسطاسهم المستقيم يدركون غاية وزنه، وبخلوص هممهم يخجلون من أن يعترضوا سعيه بعقبات شاخصة.
ومن الجليّ لدى كل متبصر: أن لرقي الشعب الذي يعيش فيه الرجل المفكر، وصفاء فطرتهم، تأثيراً شديداً في نماء أفكاره، واتساع مجالها؛ فإن الأمة إذا توجهت إلى ذي فكرة نافذة، ومثلت له في ألسنتها ما تحمله أفئدتها من رقة العواطف، انبعث في همته نشاط، ووصل صباحه بمسائه في استدرار قريحته، واعتصار مهجته؛ لتمحيص الحقائق، واستطلاع المخبآت من مكامنها؛ لينمّي سبيل معارفهم، ويزيد في رنة سمعتهم نغمة لذيذة.
فانظروا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، يوم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعًا من الصحابة عن الشجرة التي هي مثل المسلم، ووقع في نفس ابنه أنها النخلة، كيف