للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال الجصّاص: "وكان هذا الرجل ذا حظ عظيم من البلاغة، وكثير من علم اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد، غير مظنون به غير ظاهر أمره، ولكنه بَعُدَ من التوفيق بإظهار هذه المقالة؛ إذ لم يسبقه إليها أحد، بل عقلت الأمة سلفُها وخلفُها من دين الله وشريعته نسخَ كثير من شرائعه، ونقل إلينا ذلك نقلًا لا يرتابون فيه، ولا يجيزون فيه التأويل".

ثم قال: "فارتكب هذا الرجل في الآية المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً أخرج بها عن أقاويل الأمة، مع تعسف المعاني واستكراهها، وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك، وأكثر ظني فيه أنه إنما أتي من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك، واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قال السلف فيه، ونقلته الأمة، والله يغفر لنا وله" (١).

وذهب جمهور أهل العلم ومحققوهم إلى أن النسخ واقع في الشريعة.

وشبهة المنكرين لوقوع النسخ: أن اللفظ الدال على الحكم الأول إما أن يدل على الدوام، فإذا جاء الناسخ، كان متناقضاً، وإما أن لا يدل على الدوام، فيكون مطلقاً، ويكفي للعمل به مرة واحدة، وينقضي بذاته، فلا يحتاج إلى النسخ.

والجواب عن هذه الشبهة: أنه تعالى يأمرنا بالشيء، ولا ينص على دوام، ولا على عدم الدوام، وإنما يأتي الأمر بصيغة يفهم منها تكرار العمل، فنمتثل مقدرين استمراره، فهذا جاء الناسخ، نعلم أنه تعالى أمرنا بالأمر، وهو يريد العمل به إلى هذا الوقت المعين في علمه، وهذا الوقت لا يلزم


(١) تفسير آية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: ١٠٦].