فيرد هذا: بأن هلاك المرضى بخروج الأصحاء محقق، وإصابة الأصحاء وهلاكهم مظنون، ودرء الضرر المحقق مقدم على درء الضرر المحتمل الوقوع.
والإلقاء بالتهلكة الذي نهى عنه الشارع بقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة: ١٩٥]، هو: أن يرمي الإنسان بنفسه في مواقع الهلاك دون أن يدفع بهذا الإلقاء شراً، أو يجلب به خيراً، أما إذا قصد الإنسان إلى دفع شرّ أمرَ الشارع بدفعه، أو جلبِ خير استحبَّ الشارع جلبه، وألقى بنفسه في هذا السبيل، وهو يعلم أنه سيقع في مهلك، فنهي الآية لا يتناوله، بل يعده الشارع من أولي العزم الذين يحظون بالكرامة عنده، ويرتفع ذكرهم بين ذوي الأخلاق السامية.
وإذا أتينا البحث من ناحية الأخلاق، قلنا: إن خروج الأصحاء من موطن الطاعون لا لداعٍ غير الخوف من الموت، ينبئ أن نفوسهم خالية من العطف على من أصيبوا بالطاعون، حيث طابت نفوسهم أن يدَعوهم وهم يقاومون الآلام والجوع والظمأ حتى يموتوا في تلك الحالة المحزنة.
ثم إن الحديث إنما نهى عن الخروج من بلد الطاعون متى كان القصد الفرار من الموت، أما إذا خرج الشخص من بلد الطاعون بقصد آخر من نحو التجارة أو التداوي، فذلك ما لا حرج فيه، ولا يتناوله النهي الوارد في الحديث؛ لأن الحديث يقول:"وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه".
فيؤخذ من لفظ الحديث وروح التشريع؛ أن خروج الأصحاء بحيث