ونوجه النظر بعد هذا إلى ما أورده منكرو الحديث من الوجوه القاضية في رأيهم بوضعه، فنقول: أما ما قالوه من أن الحديث يقتضي تصديق الكفار في قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}[الإسراء: ٤٧]، فيرد بأن الكفار لا يريدون من قولهم:{مَسْحُورً}: أن بعض الساحرين زاول فعلاً كان له أثر في اختلال عقله - عليه الصلاة والسلام -, وإنما يريدون: أنه زائل العقل؛ أي: إنه لا يعقل ما يقول؛ كما قص الله تعالى عنهم في آية أخرى أنهم قالوا:{مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان: ١٤]، وقالوا:{يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر: ٦]، وصح إطلاق المسحور على المجنون؛ لأن السحر عند المعتقدين بحقيقته، قد يقصد به التأثير في الفكر، فيبلغ المسحور حد الجنون.
وأما قولهم: إن سحر الأنبياء يحط من مناصبهم، فمسلم متى قيل: إن السحر قد أثر في قوتهم الفكرية، أما إذا قيل: إن السحر كان له أثر في جسده - صلى الله عليه وسلم - دون عقله، وكان هذا الأثر ما عرض له من عدم القدرة على مباشرة أزواجه، فإنه لا يحط شيئاً من منصبه الشريف، ويحمل قول عائشة -رضي الله عنها - في رواية سفيان بن عيينة:"حتى كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن"(١) على معنى: أنه كان يظهر له من نشاطه القدرة على مباشرة نسائه حسب العادة، فإذا دنا منهن، لم يقدر على إتيانهن، ورواية:"يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله" نرجع بها إلى رواية سفيان: "كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن"، ونحملها على أنها من تصرف بعض الرواة؛ إذ أتى بدل قولها: "يرى أنه