غيره، وتطيب نفسه بأن يترك شيئاً من حقه للمبايع على وجه المكارمة؛ كان يحتمل في مبايعات الفقراء شيئاً من الغبن، أو يعطي المبايع شيئاً أفضل مما وقع عليه العقد.
كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين، فقضاه بأحسن مما أخذ منه، فقال له الرجل: أوفيتني أوفى الله بك، فقال - صلوات الله عليه -: "إن خياركم أحسنكم قضاء".
واستلف عبد الرحمن بن عمر من رجل دراهم، ثم قضاه دراهم خيراً منها، فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن! هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال ابن عمر: قد علمت، ولكن نفسي بذلك طيبة.
فلا يمدح الرجل على شرائه الشيء بأكثر من ثمنه، أو بيعه بأقل من ثمنه، وهو يجهل قيمته، وإنما يمدح على مثل هذه المعاملة متى كان يعلم قيمة ما باع أو اشترى. وإنما يتقبل الرجل ما زاد على حقه في المبايعة حيث يثق بأن الزيادة كانت على وجه المكارمة، فإن اشتبه عليه الحال، واحتمل أن تكون الزيادة وقعت على وجه الخطأ، أو الجهل بمقدار الحق، وجب عليه ردها إلى صاحبها، وإن هو لم يفعل، فقد وضع في بطنه أو في بيته جذوة من نار الحريق.
اشترى ابن عمر شيئاً، فوضع يده فوق المكيال، وحثا له عليه، فقال له ابن عمر: أرسل يدك، ولا تمسك على رأسه؛ فإن في ما يحمله المكيال.
وأذكر أن جرير بن عبد الله - وكان من أفاضل الصحابة - اشترى له غلامه فرسًا بثلاث مئة، فلما رأى جرير الفرس، ذهب إلى صاحبها، وقال له: إن فرسك خير من ثلاث مئة، وما زال يزيده في الثمن حتى أعطاه ثمان مئة.