أما الصنف الثالث من الناس، فهم الذين يستوفون في المبايعات حقوقهم، وترضى لهم نفوسهم أن يبخسوا حق غيرهم، فينالوا منه ما استطاعوا على وجه الغش والخداع، وهذا الضرب من المعاملة إنما توحي به قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، بل قلوب لم يدخل فيها الإيمان الحافظ من أكل أموال الناس بالباطل.
ولا مرية في أن انسياق الرجل في مبايعاته مع الجشع، وارتكاب طرق الغش، يفسد عليه الأغراض الشريفة التي تقصد من التجارة: يفسد عليه غرض التيسير على قومه، وغرض مؤازرتهم على القوة التي بها سلامتهم وسيادتهم؛ فإن الشرِه والغاش في معاملاته إنما يريد بالقوم عسراً لا يسراً، ولا ينتظم للقوم قوة والقابضون على أصول حياتها شرهون مخادعون.
بل الشرَه والغش يفسد على الرجل غرض الاحتفاظ بكرامته؛ إذ لا كرامة لمن تتلوث نفسه بالشره، وتنغمس في رذيلة الغش والخداع.
ولفظاعة الجشع والغش في المعاملات، وإخلالهما بنظام الأمن، وتشويههما لوجه المدنية الفاضلة، عُنيت الشريعة الغراء بمكافحتها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى". وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من غشّنا، فليس منا". وتحدث- عليه الصلاة والسلام- عن زمان يكثر فيه الشر، ويغلب عليه الفساد، وقال:"فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة".
يكون الغش بنقص كيل المبيع أو وزنه، وهو التطفيف المتوعَّد عليه في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ