أما أبو ذر، فكان يحض عمَّال عثمان - رضي الله عنه - حينما يراهم يتسعون في المراكب والملابس، فيتلو عليهم قوله تعالى:" {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة: ٣٤]. وكان يملأ آذانهم تقريعاً، ويدعوهم، ويشتد في دعوته إلى أن ينفقوا ما زاد على حاجتهم في سبيل الخير، وهذا أمر يطيقه الخاصة، ولا يحتمله كل إنسان، فأنهى معاوية أمره إلى عثمان، فكتب عثمان يأمر أبا ذرّ بالقدوم إلى المدينة، فقدمها، واجتمع إليه الناس، فجعل يسلك بهم ما كان يسلك في الشام، فقال له عثمان: لو اعتزلت؟. ومعناه: أن من كان مثلك في هذه المكانة من الزهد، فحاله يقتضي أن ينفرد عن الناس، أو يخالطهم في رفق، ويخلي سبيلهم ما قضوا حقوق أموالهم، وأذوا فريضة الزكاة على وجهها. فخرج أبو ذر إلى الربذة زاهداً ورعًا، وترك من ورائه قوماً يضاهونه، أو يقاربونه زهداً وورعاً.
وأما سلمان الفارسي، فكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه، تصدق به جميعاً، ولا يقتات إلا بما كسبت يده؛ تمسكاً بمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه البخاري: "ما كل أحد طعامًا قط خيراً من أن يأكل من عمل يده".
ويدلكم على مكانته في الزهد والتقوى: كتابه الذي بعث به من العراق إلى أبي الدرداء، وهو يومئذ القاضي بدمشق، ومما يقول فيه: "أما بعد: فقد كتبت إلي: أن الله رزقك مالاً وولداً، اعلمْ أن الخير ليس في المال والولد، وإنما الخير أن يكثر حلمك، وينفعك علمك، وكتبت إلي: أنك نزلت في الأرض المقدسة، اعلم أن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله".