هكذا كانت سيرة الزهاد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كانت مواعظهم: أعمال مشروعة خالصة، وأقوال رشيدة واضحة.
وفي عهد التابعين أقبلت طائفة من فضلائهم يتحدثون في أحوال النفس من حيث صفاؤها وصلتها بالخالق - جل شأنه - , وزهدها في زخرف هذه الحياة، واشتدت عنايتهم بالحديث في هذه الآداب، وكانوا يأخذون بها أنفسهم، ويرشدون إليها غيرهم، ويلقبون في ذلك العهد: الزهاد، والوعاظ.
ومن أشهر هذه الطائفة: الحسن البصري، وكان صاحب حديث وفقه، وبيان وعلم بالقرآن، فصحبه طوائف من الناس شتى، فمنهم من صحبه ليأخذ عنه الحديث والأخبار، ومنهم من صحبه ليستفيد منه البلاغة والبيان وعلم القرآن، ومنهم من صحبه ليتلقى عنه الفقه والأحكام، وهو مع هذا يتكلم في محاسبة النفس، والمراقبة والإخلاص، والمحبة واليقين، والشغف بذكر الله، وكان يعقد للحديث في هذا السبيل مجلساً في منزله، لا يشهده إلا طائفة يتوسم فيها الكفاية لأن يفهموا، والقوة لأن يعلموا، وكان لا يتحدث في هذا المجلس إلا في هذا الباب من العلم.
قال أبو سعيد بن الأعرابي: لم يبلغنا أن أحداً ممن تكلم في هذه المذاهب (يعني: أحوال النفس)، ودعا إليها، وزاد في بيانها وترتيبها وصفات أهلها؛ مثل: الحسن البصري.
كان هؤلاء الفضلاء يصرفون هممهم إلى تزكية النفوس من نقائصها، وإسلام القلوب إلى ربها، يشهد بهذا كلمهم الطيب، ومواعظهم الحسنة.
ومن مواعظ الحسن البصري:"حادثوا هذه القلوب بذكر الله؛ فإنها سريعة الدثور. واردعوا هذه النفوس؛ فإنها طلعة تنزع إلى الشر عادة".