العقوبة إلى السجن زيادة في الخزي والنكال؛ فإن من يبارح وطنه، ويغادر مسقط رأسه يجد في نفسه حرجاً، وفي خاطره ضجراً؛ لانقطاعه عن أهل تربى في حجورهم وليداً، وحنوا عليه بعواطفهم حقبة، ثم مفارقته لعشيرة شب على أخلاقهم وعوائدهم، واشتمل برداء عزهم من قبل أن يكبر عن الطوق، ومن ثم نبعت الغيرة على الوطن في صدور الطوائف، وأصبحوا يجلونه أعظم إجلال، فلو هاجر قومه الوطن الأول، وانتبذوا بدله مكاناً قصياً، لتحولت غيرته معهم، وخص بها المنزل الحديث كما يخصه بالتشوق والحنين، وعلى هذا المعنى يحمل حديث:"حب الوطن من الإيمان" على فرض ثبوته، فحب الوطن على هذا الوجه يدل على حسن العهد، ويدعو إلى التعاضد على البر والتقوى.
وقد يألف الإنسان بعض البقاع، فيجد في إحساسه ميلاً نحوها زائداً عما تقتضيه قيمتها في نفسها، ويأبى أن يستبدلها بالذي هو خير، ولكن هذا الميل، بعد أن نسلم أنه أثر طبيعي غير خيالي، فلا يعد من العواطف المعتبرة في نظر الشريعة، ومجاري عادات العقلاء حتى يستحق من أجلها صفة تمجيد. فمن تحيز عن أمته، وطفق يرمي في وجوههم بعبارات الازدراء، وينفث في كأس حياتهم سماً ناقعاً، لا نصفه بصفة الغيرة الوطنية، وإن شغف بحب ديارهم، وقبّلها جداراً بعد جدار.
ولا يراد بالتخيير هنا إلقاء العقوبة بيد الإمام يحد الجاني بأي نوع اتفق، أو تعلقت به مشيئته؛ كالتخيير في خصال الكفارة، وإنما المراد: فتح مجال الاجتهاد في هذه الأنواع من غير أن يخرج عن دائرتها، فيجب عليه النظر أولاً، وبذل الوسع فيما هو الكافي لحسم هذا الفساد من أصله، وبعد