أراد أبو الوليد الباجي - حين كان يناظر أبا محمد بن حزم - أن يثبت لهمته فضلاً على همة ابن حزم، فقال له:
أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبتَهُ وأنتَ تُعان عليه، تَسهر بمشكاة الذهب، وطلبْتُهُ وأنا أسهر بقنديلٍ بائر السوق.
وأجابه ابن حزم قائلاً: أنتَ طلبتَ العلم في حال فاقة رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبتُه في حين ما تعلمه وما ذكرته، لا أرجو إلا علوَّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
فضّل أبو الوليد الباجي همته على همة ابن حزم بما كان يلاقيه في سبيل طلب العلم من شدة وعناء، وفضّل ابن حزم همته على همة أبي الوليد الباجي بأنه كان يطلب العلم لفضيلته. ولو صح قول ابن حزم، وثبت ما اتهمَ به أبا الوليد من أنه كان يطلب العلم لليسار والرفاهية، لكان أعظم همة ممن يريد اتخاذ العلم وسيلة إلى منصب، أو وجاهة، أو مال.
يتعلق عظم الهمة بكل شأن رفيع، ومقام محمود، ولا تسع هذه الكلمة إلا أن نعرج فيها على عِظم الهمة في العلم، وعِظم الهمة في النصح والإرشاد.
* عظم الهمة في العلم:
تتفاضل العلوم بغاياتها، وبقدر ما يكون لها من الاتصال بسعادة الإنسان. وتتفاضل همم الطلاّب بالنظر إلى هذه العلوم المتفاضلة في نفسها. فلكلٍّ من علم الأخلاق وعلم العروض - مثلاً - أثر في الحياة الأدبية، ولكن علم الأخلاق أقرب إلى السعادة منزلة، وأوسع فيما ينفع الناس جولة. فمن يُعنى بالأخلاق ليتحلى بمكارمها، يكون أرفع همة ممن يُعنى بالعَروض ليعرف أوزان الشعر