وحكى أشعب بن جبير: أنه كان في بعض سكك المدينة، فلقيه رجل وقال له: كم عيالك؟ قال: فأخبرته، فقال لي: قد أُمرت أن أجري عليك وعلى عيالك ما كنتَ حياً، فقلت: من أمرك؟ قال: لا أخبرك، قلت: إن هذا معروف يشكر، قال: الذي أمرني لم يُرِدْ شكرَك. قال: فكنت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، فحفل، له الناس، فشهدته، فلقيني ذلك الرجل فقال: يا أشعب! هذا والله! صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك!.
هذا فاعل للخير من وراء حجاب، وأين هو من أشخاص لا يتورعون أن يلبسوا الحق بشيء من الباطل، ويزيدون على هذا أن يزعموا أن هذا اللبس إصلاح، ويعلنون بأجهر صوت أنهم مخلصون فيما يقولون أو يفعلون؟!.
ولعلك لا تجد أحداً يتصدّى لعمل إلا وهو يدّعي الإخلاص فيما يعمل، ذلك لأن الإخلاص موطنه القلب، والقلوب محجوبة عن الأبصار، واذا وصفت أحداً بالإخلاص، أو عدم الإخلاص، فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة.
ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرة الرجل دلالة قاطعة، ومنها ما لا يتجاوز بك حد الظن، وهذا موضع التثبت والاحتراس، ففي وصف المخادع بالإخلاص، ووصف المخلص بالخدل، ضرر اجتماعي كبير، فإن وثقت بمجرد الظن، لم تأمن أن تقضي على فاسد الضمير بالإخلاص، فيتخذه الناس موضع قدوة، فيستدرجهم إلى فساد صغير، حتى إذا ألفوه، نقلهم إلى فساد كبير، وربما قضيت على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرج تنير لهم السبيل.