للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالأمانة زينة العلم وروحه الذي يجعله زاكي الثمر، لذيذ المطعم.

وإذا قلبت النظر في تراجم رجال العلم، رأيت بين العالم الأمين وقرينه غير الأمين بونًا شاسعًا، ترى الأول في مكانة محفوفة بالوقار، وانتفاع الناس منه في ازدياد، وترى الثاني في منزلة صاغرة، ونفوس طلاب العلم منصرفة عن الأخذ عنه، أو متباطئة.

وقد تقرأ كتاباً، فتراه حافلاً بالمسائل النادرة، فيكبر صاحبه في عينك، ومتى عرفت أنه من المطعون في أمانتهم، شعرت بأن شطرًا من ذلك الإكبار قد ذهب، وخالطك الريب في صحة ما أعجبت به من المسائل الراجعة إلى الرواية.

كيف تكون منزلة الجاحظ عندك، لو درست حياته، فخرجت مالئاً يدك بالثقة من أنه راوية أمين؟ لا شك في أن الأمانة إذا انحازت إلى مثل ذكاء الجاحظ، وسعة اطلاعه، بلغ صاحبها في الشرف والسؤدد المكانة القصوى، ولكنك تقرأ ما شهد به بعض (١) ناقدي علماء العربية من أن الجاحظ غير مأمون فيما يروي، فلا يبقى في نفسك من احترامه إلا ما جاءها من ناحية سعة علمه، وبراعة بيانه.

ولا أظنك بعد أن تعلم أن أبا الفرج الأصفهاني صاحب كتاب "الأغاني" غير معدود فيمن يطمأن إلى روايته (٢)، إلا أن تقرأ كتاب "الأغاني" على أنه كتاب أدب يجمع بين الصحيح والسقيم، حتى إذا أردت تحقيق موضوع تاريخي، لم تعول على ما ينفرد بروايته، فتورده كما تورد ما يرويه ابن جرير


(١) أبو منصور الأزهري في مقدمة كتاب "التهذيب".
(٢) انظر: "عيون التواريخ" لابن شاكر.