الطبري - مثلاً -، وأنت مطمئن إليه، ولو كنت إذ درست حياة أبي الفرج، وجدتها خالصة مما يخدش في أمانته، لأخذ في نفسك مكانة فوق المكانة التي حازها من جهة سعة اطلاعه، وإتقانه لصناعة التأليف.
فالرجل الذي يكون على جانب من العلم، ولا يتصرف فيه بأمانة حصينة، يرمقه الناس بازدراء، وتذهب ثقتهم به، فلا يكادون ينتفعون بما يمكنهم أن ينتفعوا به من معلوماته الصحيحة.
وهذا صاعد بن الحسين البغدادي دخل قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر، وكان عالماً باللغة والأدب والأخبار، ولكن أهل العلم اختبروه، فوجدوه يتنفّق بالكذب، فأعرضوا عنه، ولم يأخذوا منه شيئاً، وألف كتاباً سماه:"الفصوص" نحا فيه نحو: "الأمالي" لأبي علي القالي، فغلب شؤم ما فيه من كذب على ما فيه من صدق، وكان شكرهم لهذا الكتاب أن طرحوه في النهر.
قد يقع الرجل في حال يرى أن الاعتراف فيه بالجهل يذهب بشيء من احترام سائليه له، فيقف بين داعيين: فضيلة الأمانة تدعوه إلى أن يقول: "لا أدري"، وحرصه على أن يبقى احترامه في نفوس سائليه غير منقوص يدعوه إلى أن يستمد من غير الحقيقة جوابًا، وفي مثل هذا الحال يظهر مقدار صلة العالم بمزية الأمانة، فإن كان راسخًا فيها رسوخ الجبل تشتد به العواصف، فلا تزحزحه قيد شعرة، أجاب داعيها، واستيقن أن الاحترام الحق في الوقوف عند حدودها، وإن كانت الأمانة كلمة يقولها بفمه، ويسمعها بأذنه، دون أن تتخلل مسلك الروح منه، آثر لذة الاحترام في ذلك المشهد، وأجاب بما ليس له به علم.