للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"من ولي القضاء، فقد ذبح بغير سكين" (١)، ففي هذا الحديث تمثيل القاضي - إذ يلاقي جزاءه في الآخرة - بأشد الناس عذاباً في هذه الحياة، وهو المذبوح بغير سكين، وهذا حال من يكون حظه من علم القضاء بخسًا، أو يكون خلق العفاف في نفسه واهياً.

ويصحُّ حملُ الحديث على معنى الإشارة إلى صعوبة القضاء، حتى كأن القاضي من أجل ما يلاقيه - من تعرف الحق وتنفيذه - من مكاره، ومجاهدة للأهواء، مذبوح بغير سكين، وهو بعد هذا مشعر بسمو منزلة القضاء؛ إذ كان القاضي العادل يضاهي القتيل في سبيل الله؛ بما انقطع عنه من شهوات، وقاساه من آلام، يبتغي أجر الله، والله عنده أجر عظيم.

ومما جمع بين الوعد والوعيد: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق، وجار في الحكم، فهو في النار" (٢).

وصف هذا الحديث عاقبة من يقضي بالحق على بينة منه، وهي المصير إلى الجنة، وآذن بعاقبة من يقضي على جهل أو جور، وهي المصير إلى النار.

ولا يتناول هذا الوعيد العالم بأصول الشريعة يجتهد رأيه، فلا يصيب الحق، ويقضي بما رأى، قرأ الحسن البصري قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٨ - ٧٩]، وقال: لولا ما ذكر الله


(١) رواه أبو داود، والترمذي، وحسَّنَه، وابن ماجه، والحاكم، وصححه.
(٢) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم.