وبقي نحو سنة يطلبه لها وهو يمتنع، حتى قال له حالفاً: لئن لم تتقدم لها، لأقدّمن على الناس رجلاً من غير أهل السنّة، فاضطره هذا الحلف إلى قبولها.
ومن العلماء من يُطلب للقضاء، فلا يجيب إلا على شرط يصعب على رجال الدولة قبوله، ولا يسعهم إلا أن يتركوه.
طلبوا أبا محمد بن أبي زيد لقضاء القيروان، وقطعوا دون قبوله كل عذر، فشرط عليهم أن يجعلوا لمن بين يديه من الأعوان ما يقوم بكفايتهم من بيت المال؛ بحجة أن من واجب السلطان أن يوصل لكل ذي حق حقه، وليس على صاحب الحق أن يعطي من حقه شيئاً (١)، فاستكثروا ما ينفق في هذا السبيل، وتركوه.
وإن شئت مثلاً يريك الاعتزاز بالعلم والزهد في المناصب إلا أن يتيقن السير بها في استقامة، فإليك قصة زياد بن عبد الرحمن: دعاه هشام عندما تولى الخلافة بالأندلس إلى القضاء، فأبى، وبعث إليه الوزراء، فلم يتخلص منهم حتى قال لهم: عليّ المشي إلى مكة إن ولّيتموني القضاء، وجاء أحد يشتكي بكم، لآخذن ما بأيديكم، وأدفعه إليه، وكلفكم البينة؛ لما أعرفه من ظلمكم! فعرفوا أنه سيفعل ما يقول، فتركوه.
وعناية الإسلام بالقضاء رفعته إلى درجة أفضل الطاعات، فمن سار على بينة وهدى، كانت الأوقات التي يشغلها بالنظر في النوازل داعداد الوسائل لساعة الفصل أوقاتاً معمورة بالعمل الصالح، كافلة لصاحبها الكرامة في الدنيا، والفوز في الأخرى، ولهذا ترى بعض العلماء يتقلدون القضاء، ويأبون أن
(١) نص على هذا ابن رشد في كتاب "البيان". وعمل القضاة جار على غير هذا، وهو أن أجرة العون على طالب الحق.