المؤيدة بالحجة، قد يحمل هذا الهجوم على قصر نظرك، وعجزك عن تمييز الباطل من الحق، فإن حمله على أنك تهاجمها كراهة أن تكسب صاحبها حمدًا، وقع في نفسه أنك تتمنى لغيرك زوال النعمة، أو أنك حريص على الانفراد بخصال الحمد، فإن ذهب في تأويل إبايتك لقبول الحق إلى أنك تموّه على الناس؛ حتى لا ينسبوا إليك نقيصة الخطأ، علم ما لم يكن يعلم من إيثارك النفس على الحق، ولا احترام لمن لا يدرك الآراء المؤيدة بالحجة، أو يتألم من أن يرى غيره في نعمة، أو من يعمل للانفراد بالحمد من طريق التعسف والعناد، أو يدافع عن نفسه نقص الخطأ بمحاولة قتل الحق.
قلة الإنصاف تسقط احترامك من القلوب؛ والإنصاف يزيد احترامك في القلوب مكانة؛ ذلك لأن إنصافك للرجال يدل على صفاء سريرتك ونقائها من أن تكون قد حملت شيئاً من دنس الحسد، أو حام بها الغلو في حب الذات.
نقرأ في كتب الأدب: أن منذر بن سعيد البلوطي دخل مصر، وحضر مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء، فأنشد أبو جعفر أبيات مجنون ليلى هكذا:
قد اسلَمها الباكون إلا حمامةً ... مطوّقةً باتَتْ وباتَ قرينُها
تجاوِبُها أخْرى على خَيْزُرانَةٍ ... يكادُ يدنيّها من الأرضِ لينُها
فأراد منذر أن ينبهه على أن قراءة:"باتت وبات" من عجز البيت الثاني بالتاء المثناة خطأ، فقال: يا أبا جعفر! ماذا- أعزك الله- باتا يصنعان؟ فقال أبو جعفر: كيف تقول أنت يا أندلسي؟ قال منذر:"بانت وبان قرينها".