كيف يكون مقام أبي جعفر في نفسك لو قصَّ عليك التاريخ أنه تلقى تصحيح منذر بن سعيد بالارتياح، وقال له: أنا أخطأتُ، وأنت أصبتَ؟ لا شك أنك تحمل له من الاحترام فوق ما كنت تحمل، ولكن منذر بن سعيد يقول: إن ابن النحاس سكت، وما زال يستثقلني، ثم عاد بعد حين إلى ما كنت أعرفه منه؛ يعني: من الإقبال والحفاوة.
وقلة الإنصاف تحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً؛ فمن لم تنصفه من أهل العلم، وجد في نفسه مثبطًا عن أن يسرع إلى إفادتك أو يقيض القول في مذاكرتك، فيفوتك حظّ من العلم لولا عدم إنصافك، لازددت به قوة في الفهم، وسعة في العلم، وقد يكون من أثر جحودك لفضل الرجل أن تقل رغبتك في ملاقاته، والتزود من آرائه أو رواياته، وكم وصل الرجل بإنصافه إلى علم وأدب جم!
قال أبو إسحاق الزجّاج: لما قدم المبرِّد بغداد، أتيته لأناظره؛ وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، وأميل إلى قول الكوفيين، فعزمت على إعنات المبرِّد، فلما فاتحني، ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلة؛ وألزمني إلزامات لم أهتد إليها، فتبينت فضله، واسترجحت عقله، وجددت في ملازمته.
فلو كان أبو إسحاق من أولئك الذين يجمح بهم التعصب للأشياع أو المذهب، حتى ينبذوا الانصاف ناحية، لما اعترف بفضل المبرد، وقد فاتحه بالمناظرة عازمًا إعناته، ولفاته العلم الذي غنمه بالجد في ملازمته.
وقلة الإنصاف تحدِث في العلم فساداً كبيراً؛ ذلك لأن من لا يقدر الإنصاف قدره، قد يرى بعض الآراء العلمية الصحيحة قد صدرت من شخص لا يرتاح هو لأن تكون قد صدرت منه، فيقابلها بالرد والأنكار، وقد تكون