له براعة بيان، فيصرفها في تشويه وجه الحق، وهو يعلم أنه حق، فيظهر الجهل على العلم، ولو في فئة قليلة، أو دائرة صغيرة.
قلة الإنصاف تخذل العلم، وتطمس شيئاً من معالمه، والإنصاف يؤيد العلم، ويجعل موارده صافية سائغة. ولو أخذ الإنصاف حظه من نفوس جميع الباحثين عن الحقائق، لقلَّت مسائل الخلف في كل علم، فيكون حفظ العلوم أيسر، ومدة دراستها والرسوخ فيها أقصر.
نقرأ في تاريخ العلامة محمد بن عبد السلام: أن ابن الصبّاغ اعترض عليه في أربع عشرة مسألة، فلم يدافع عن واحدة منها، بل أقرّ بالخطأ في جميعها.
ومن النواحي التي غفل فيها بعض الناس عن فضيلة الإنصاف، فكانت منبت فساد غير قليل: ناحية التعصب للمذهب تعصبَ من لا يسمع ولا يرى، ولصاحب المذهب أو المقتدى به أن يبسط القول في تقرير أصوله، وإيراد حججه، وله أن يناقش أقوال مخالفيه، وأدلتهم، فيردها، ويصفها بالخطأ إذا شاء، ومن الإنصاف أن يناقشها استبانة للحق، ولا يصفها بالخطأ إلا بعد أن تأذن له الحجة في وصفها، والعالِم الذي يطول نظره في أقوال الأئمة، يشهدهم كيف يرمون إلى غرض واحد هو الحكم المطابق للحق، فيمتلئ قلبه باحترامهم، ويقف في حدود الإنصاف عند درسه لمسألة من المسائل التي جرى فيها اختلافهم.
قال الإمام الشافعي: الظرف في الوقوف عند الحق كما وقف.
لا يصعب على النفوس - التي فيها بقية من خير - أن تنصف الرجل يبتكر رأياً، أو ينهض لعمل، فتعترف لرأيه بالإصابة، أو لعمله بالإجادة.