لا أدري كيف حدث خاطر: أن قلة إقبال المسلمين على العمل لجمع المال، وتفشي الفقر في شعوبهم آتيان من ناحية دينهم؟! وهؤلاء علماؤنا يقررون أن كل صنعة تحتاج إليها الأمة فرض كفاية، لا تخلص الأمة من واجبها حتى تقوم بها طائفة منهم، وقالوا: إن نحو التجارة هي مباحة بالنسبة للأفراد؛ أي: يجوز للرجل أن يتخذها حرفة يستمر عليها، وله أن يختار غيرها في بعض الأحيان، ولو تركها الناس جميعاً، لأثموا بتركهم لما هو من الضروريات المأمور بها (١).
وهذا الزركشي يقول في بحث: فروض الكفاية من "قواعده": "الدنيوي: كالحرف، والصنائع، وما به قوام المعاش؛ كالبيع، والشراء، والحراثة، وما لا بد منه، حتى الحجامة والكنس"، ثم قال:"ولو فرض امتناع الخلق منها، أثموا".
والتوكل في لسان الدين إنما يراد به: توجه القلب إلى الخالق حال العمل، واستمداد المعونة منه، فلم يكن داعية إلى البطالة والإقلال من العمل البتّة، بل كان للتوكل الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على الأعمال الجليلة التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأسباب الحاضرة يقصران عن إدراكها، وإذا فسرته فئة غير عالمة بقبض اليد عن العمل، وطرح الأسباب جملة، فذلك تفسير لا يقزه الدين الذي يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ
(١) انظر بحث: المباح بالجزء المطلوب بالكل من "موافقات" الشاطبي.