سيرته، لم يعجب لهذا الانتصار المطرد؛ إذ يجد فيها عدلاً ومساواة يأخذان النفوس إلى أن تلقي إليه بالمودة والامتثال، ومن الأخبار الشاهدة بما وصفنا: أن رجلاً من العامة وقف بمجلسه، وقال له: إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك، وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة (١)، وكان للفتى فضل محل عنده، فقال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية! ثم نظر إلى الفتى، وقال له: ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه، حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره، وبعد أن جازاه القضاء بما يستحق، أبعده المنصور عن خدمته، وصاحبُ مثل هذه السيرة حقيق بأن يكون له، متى هم بالحرب، عزم لا يختلج بتردد.
فمن وضع أمامه غاية شريفة، ورام من قومه العمل لها بعزم لا يخالطه فتور، فما عليه إلا أن يريهم بالأسلوب السائغ والدليل المقنع وجه شرف تلك الغاية، ثم يصف لهم طريقها الناجح، فلا يكون منهم إلا أن يتسابقوا إليها، ويقتحموا كل عقبة تلاقيهم في سبيلها.
فإذا رأيت قوماً يذكرون في صباحهم ومسائهم شيئاً من معالي الأمور، ولم ترهم يسعون له سعيه، ولا يتقدمون إليه بخطوة، فاعلم أن العزم لم يأخذ من قلوبهم مأخذه، فهم إما أن يكونوا عن حقيقته وشرف غايته غائبين، وإما أنهم ضلّوا طريقه وما كانوا مهتدين.