ما يرفعه إلى مرتبة أئمته الذين يكتبون فيه فيحققون، ويسألون عن أخفى مسائله فيجيبون، والذي يضع يده في علوم شتى، يمكنه أن يجاري طوائف العلماء في المباحث المختلفة، وعلى قدر ما يكون للرجل من خبرة بالعلوم، يبعد عن مواقع الذِّلَّة، ويزداد في أعين الناس تَجِلَّة.
عكف أبو صالح أيوب بن سليمان على كتاب "العروض" حتى حفظه، فسأله بعضهم عن إقباله على هذا العلم بعد الكبر، فقال: حضرت قوماً يتكلمون فيه، فأخذني ذل في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه.
تقضي الحياة الراقية أن يقوم بكل علم طائفة يكونون السند الذي يرجع إليه، وكذلك كان علماؤنا فيما سلف: يُقْبل كل طائفة منهم على علم يقومون عليه دراية، ويقتلونه بحثًا. وبهذا اتَّسَعت دائرة المعارف، وظهرت المؤلفات الفائقة. وتراهم قد عرفوا من قبل أن نجاح قصر الطالب على الرسوخ في علم، يرجع إلى ترك الطالب وما تميل إليه نفسه من العلوم.
ومما نقرأ في ترجمة أبي عبد الله محمد الشريف التلمساني - وكان راسخاً في المنقول والمعقول -: أنه كان "يترك كل أحد من الطلبة وما يميل إليه من العلوم، ويرى أن كل ذلك من أبواب السعادة".
ومن لطف مبدع الكون أن جعل النفوس تختلف في استعدادها للعلوم والفنون والصنائع؛ لينتظم شأن الحياة، وتتوافر وسائل السعادة. وربما نشأ أفراد في مهد واحد، واختلف ميلهم إلى العلوم، فبرز كل في العلم الذي وافق رغبته، ووجه إليه همته؛ كأبناء الأثير الثلاثة: علي (١) الملقب بعز الدين: إمام