للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الناس اتقاء فُحْشه" (١).

فلقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل المعروف بالبذاء، من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رفق به في الخطاب، وقد سبق إلى ذهن عائشة - رضي الله عنها -: أن الذي بلغ أن يقال فيه: "بئس ابن العشيرة" لا يستحق هذا اللقاء، ويجب أن يكون نصيبه قسوة الخطاب، وعبوسة الجبين، ولكن نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد مدى، وأناته أطول أمدًا، فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم، فلا يظهر أثره إلا في مكان أو زمان يليق فيه إظهاره، ويريد تعليمهم أدبا من آداب الاجتماع هو رفق الإنسان بمن يقصد زيارته في منزله، ولو كان شره في الناس فاشياً.

على أن إطلاق جبينك لمثل هذا الزائر لا يمنعك من أن تشعره بطريق سائغ أنك غير راض عما يشيعه في الناس من أذى، ولا يعوقك عن أن تعالجه بالموعظة الحسنة، إلا أن يكون شيطاناً مارداً.

ومن المداراة: أن تلقى ذا يد تبطش، فتمنحه جبيناً طلقاً، وتتجنب في حديثك ما لا يكون له أثر في نفسه، إلا أنه يثير فيها القصد إلى أذيتك، وهذا مجمل قول أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لَتَلْعنهم وفي رواية: "لتقليهم" (٢)، والكشر: التبسم. وفي هذا الأثر شاهد على أن التبسم في وجه الظالم اتقاء بأسه ضرب من المداراة، ولا يتعداها إلى أن يكون مداهنة.

ومن المداراة: أن يكون الرجل على حال تقتضي صرفه عن بغية، أو


(١) "صحيح الإمام البخاري".
(٢) تبغضهم.